Home Page
+33° C

Nader Rantisi's Posts (12)

Sort by

اليوم عادي، أو معتاد، كأنّه أمس، وكان من قبل غداً، وجاء بصيغة اليوم. الجوُّ حارٌّ وراء الزجاج الملوَّن، ورطبٌ وراء الجدار الرماديِّ، وباردٌ في الداخل، ارتديتُ معطفاً اشتريته لمطر كان محتملاً في عمَّان قبل شتاءين كاذبين. أفتح الثلاجة الأقصر من زوجة أمضت خمسين عاماً في الخدمة الزوجية، أشربُ عصيراً طبيعياً على عهدة مصنع إنجليزي مجهول، أفتح التلفاز فيكون “سعيد صالح” ذاهباً في السابعة صباحاً إلى المدرسة في يوم “المُولدْ”، فأعرفُ بالفطنة الزائدة أنَّ اليومَ “عيد”.

ستفوتني صلاة العيد، فلن توقظني التكبيرات في الجامع القريب، على بُعْد سماء من بيتي. أتجوَّلُ في البيت، أخرجُ من علبة الكبريت، إلى علبة السجائر: أحاولُ تقليدَ السعداء الذين هم في معجم أمِّي “مِسْعَدينْ”؛ لكنَّ ذقني نابتة كعاشقٍ يقطعُ الحبَّ من طرفٍ ليوصله بحبل الغسيل، وحلاقتها ترفٌ لسائحٍ يتوقع أنْ يصادفه الحبُّ في مطعم الوجبات السريعة، فأين يذهبُ “غريبٌ على الخليج” في يوم العيد، ولا موتى لي في المقابر، لا أطفالَ يؤوِّلون حركات يدي لأخرج الدنانير الخضراء، لا “معمول” في منزل الأرملة، أو قهوة مُرَّة إذا التبَسَ الفرح، وسكاكر رخيصة للأطفال دون العاشرة، ولا تأفف على خفوت النهار قبل اكتمال زيارات المَحارم في “ياجوز”؛ فالوقتُ هُنا “وقفة” طويلة!

“غريب” و”على الخليج”، هُنا أجلسُ على البلاج لأتأمَّلَ الذين صدَّقوا مرور العيد، وتورَّطوا في الإحساس المبالغ بفرح مائي المزاج، كنتُ سأقبل بالخدعة بوقار زائف، وأذهب معهم إلى “المول” الكبير كنهاية حتميَّة لأزمة السير، وأندمج في سرب مراهقين يقفون بانتظار شيِّق عرضاً أوَّلَ لفيلم أخير لـ “أحمد حلمي”، وأحمل طفلاً لا يشبهني لأدله على طريقة ممتعة لرمي “الطابة” في الصالة المغلقة على كمية معقولةٍ من المرح، أجلس بقرب عائلة تبدو سعيدة في المطعم المفتوح، حتى يأتوا تباعاً لأخذ مقاعد طاولتي كلما اكتملوا، وكلما نقصتُ، واقتربتُ من فصيلة التعساء الذين في معجم أميِّ “مِتْعَسينْ”؛ أمِّي التي لها حكمة مؤلمة: “من ليس له عائلة، ليس له عيد”.

اليوم عادي، أو معتاد، جاء العيد أو ذهب، الأمر لا يُؤرِّقُ كائناً تلفزيونياً خرج في فاصل قصير لمعاينة الحياة، ومطابقتها مع الأصل السينمائي. خرجتُ فقط لأحسم الجدَلَ اللحوح في رأسي، لكنَّ طفلة مصرية ستسأل أمَّها الملولة “هنروح العيد ولا هوَّ هيجي”؛ كانت تتعلمَّ فنَّ الشك، وتجرِّدُني من الأسئلة التي أجوبتها زائدة، فالأمر الآن لا يُحيِّرني، ولن يحيِّرَ الطفلة أكثر من عشرين عاماً، حتى تنجبَ طفلاً يضحكُ على تلميذ يذهب إلى المدرسة في يوم “المُولدْ”، وتتأكَّد أنَّنا نذهب إلى العيد كلما كبرنا، وبالغنا في المكابرة أنَّ “العيال كبرتْ”!

خرجتُ غريباً بمحاذاة الخليج، لا أقصدُ شيئاً، ولا شيءَ يقصدني، لا يهمني أن أعرفَ بدقة ضارة إنْ كان اليوم أمس أو غداً. محايداً مشيتُ لا أملك موقفاً متعالياً؛ فليس العيد ما يُضَجرني، إنما اضطرار الناس للفرح..

وبصراحة كاملة لا حرجَ فيها: “ما لي شغل بالعيد.. مريتْ أشوفكْ”

Read more…

ونغار من اسمه: معاذ

نغارُ من "معاذ"، نحن الذين لم نخدم العَلَمَ سوى في الظلِّ، ولم تلوِّح جباهنا شمس "خَوْ"، وما عبأنا رمل الغور في الخوذة. نغارُ من اسمه البسيط، فيحبُّ الله اسم "معاذ" ويحفظه من السوء والمكر، ونخجلُ من الألف في اسمه، عالية هي كسارية المعسكر، ونحسدُه نحن أطفال المدينة والجبل السابع، على عينيه الزرقاوين كجناحيِّ يمامة، على قَدره المكتوب بخيوط "مدرقة" كركية، وعلى موته الشّجَريِّ، والنار الباردة.. والسلام الأخير.

ونغارُ من مصادفاته الثمينة، هو الذي سقط في النّهر البارد ليلة الميلاد، وماتَ بهيئة نورٍ صباح المولد النبويِّ، هو الفتى الصلب من ضباب يمرُّ، الذي من حجر "تنبو الحوادث عنه وهو ملموم"، نغارُ من صورته الأخيرة: الشهداء إنْ لم يبتسموا فالموتُ أخفُّ من عضلة في الشفاه، ومن صورته الأولى نغارُ: الشهداء إنْ لم يلوِّحوا فإنّ للغياب أسماء لا تمحوه؛ ومن جنازته يغارُ الشهداء: توقفتْ الأرضُ عن دورانها لتعبِّئ رمادَه في قِدْر الحنَّاء.

Read more…

الكساسبة تعرض لتعذيب شديد ومن الواضح أنه كان يأمل أن يبقى على قيد الحياة أو أن داعش اوهمه بذلك إن شتم النظام الأردني، وهذا ما حدث في "الفيلم" المعد جيداً وقبل فترة طويلة. داعش تنظيم إرهابي ما يزال يثبت جدارته في الحروب النفسية القذرة.

Read more…

قلب عمان الأبيض أعطى لكل ذي حلم حلمه: منْ مرَّ على خاصرتها يشتري الهدايا لغيرها، ومن كُسرت بوصلته ومنحته اليقين،

ومن أنكرها زمناً حتى عاد إليها راشداً بتوبة الطفل،

ومن غرس جسده في رحمها وانتظر ولادته المتأخرة، فراق له خداج رؤوم.

* * 

أتاها الولد طفلاً متعدد الأمهات، لم يعطها رأسه، ولم يُمسك بطرف ثوبها في زحمة السوق.

وعندما تاه فرك قلبه وعينيه ولم يبك.

أوغل في الزحام ومضى فيما ظنه التيه، ولما كسره التعب استراح على رصيف وتفقد يده اليمنى التي تعلق فيها طرف ثوب مُطرّز. 

Read more…

عمّان بيت صغير بسبعة طوابق، متكافئة في العلو، تتزاحم على حمل الشمس في الخامسة صباحاً، حين تكون برتقالة حمراء، تسقط على حجارة المدرَّج الباردة، تمنحها الدفء، وتعلن الحياة التي غفت في العاشرة مساء، على كتف بائع العصير.

عمّان أيضاً بيت كبير بسبعة طوابق، لا أبواب لها، وغرفها كفوف مفتوحة للمتعبين والمتربين، ومنْ أوصد الزمان في وجههم الجهات، وترك لهم الشرق مدينة مشمسة مساء وصباحاً، تكللهم بالضوء الذي خفُت على وجوههم، وتدفعهم إلى شوط إضافي من الحياة.

عمّان المرأة التي لا تحبها من أول نظرة! تشغلكَ زماناً بسرِّها، وعندما تقترب من اكتشاف كنهه، يكون قبلكَ تورَّط فيها، فتحبُّها بوضوحها وغموضها. تؤوب إليها من سفر، قريب أو بعيد، لتكتشف أنَّها تخرج من الحقيبة، وأنكَ غادرتها، ولم تغادركَ.

Read more…

أحنُّ إلى أبي

 كان يبدو قاسياً، وله هيبة عسكري على بعد رتبة من التقاعد، لكنّه تقاعد مبكراً، والحنينُ، يا حكيم، وجع الإبرة، عندما كانت أمي الصبية ُتخيط الزرَّ الأعلى، المقطوع دوماً، في قميص شدَّني منه أبي ليمنعني من السفر. وسافرَ أحدنا، وأحن الآن إلى الوجع..

Read more…

عاد الشتاءُ

عاد الشتاءُ، وكلَّما أقرَّت "فيروز" بعودته، تذكَّرتُ أنَّ لي رغبة قديمَةً بالبكاء: على حبٍّ له عُمْرُ الثلج، أو على أبٍ ماتَ طلباً للدفء، أو على وطن يغرقُ في أيِّ ماءٍ بمعدَّل شبرٍ ناقص الإبهام. عادَ قطبياً، عنيفاً، كما توعَّدت مذيعة ترتدي نصفَ حصَّتها من الملابس، وهذا الشتاءُ يثيرُ فزعي، يُربكني كحبٍّ مُحْتمل، يُذكِّرُني بالنهايات التي خرجت من كتبها المحفوظة قبل موعدها، فقد ولدتُ في الصيف وأخشى خاتمة الشتاء، وهذا الجوُّ الغائم بالأسرار يجعلني حكيماً، فالغيمُ الأسود لا يحمل الثلج، وهذا الشتاءُ غريبٌ كالحبِّ، كذكرى عاشقةٍ: فالمَطرُ في "عمَّان" والغيمُ في قلبي.

Read more…

الثانية عشرة دائماً

الليلة هي الأخيرة، والعام هو الأخيرُ، ولي أمنيات مستحيلة كالمحكوم بالإعدام، أنْ أعيدَ ترتيبَ الوقتِ، وتسمية الأيام، وتبديل الأعوام، وكلُّ ما يريده رأسي الليلة أنْ ينامَ على ركبتيكِ، عند الثانية عشرة "تماماً"، مثل يتيم الآباء؛ فهاربٌ أنا من العام الخائب إلى عينيكِ، ومن الصحراء إلى يديكِ. خرجتُ برأسي من كلِّ المظاهرات الخاسرة فأحميه من السقوط ثانية، وبرفقٍ مسِّدي شعري وأدخليني زمنكِ الطويل حتى الثانية عشرة "دائماً".

الدقائقُ الثلاث التي بها انتظرتكِ حتى تقطعين شارعاً بيننا مزدحماً بالأضواء، الساعاتُ الخمس التي كنتُ أرتِّب فيها الكلامَ على الكلامِ في علبة المناديل، الأيام التي تفصل الأحد عن أحدٍ ماضٍ، الأسابيع التي مرت ثقيلة على قدميَّ في حزم جافة من الأشهر الحُرم، العام الذي بدأ قبل ألف سنة واختار موتاً مشهوداً على رأس هذه الليلة: كلُّ هذا الوقت ظلَّ معلقاً على الحائط في ورق مصقول، كزينة مؤقتة؛ كلُّ هذا الوقت ظلَّ، كالزينة المؤقتة، في ورق مصقول، معلقاً على الحائط.

والوقتُ نقوشٌ رتيبة على شالكِ، نشارة التبغ الأشقر في سيجارتكِ، أحرف كثيرة مهدورة قبل أن يتشكَّل اسمكِ بين روّاد البار، مرور الرجل السمين ببدلة السفاري بطاولتكِ، طول البال الذي في صوت "فريد الأطرش"، خطوات النادلة الصفراء قبل صعود الفجر، الضجيجُ الذي جلبه الشاعر الخشن من الشرفة لحقن القصيدة بالموسيقا، الأحداث التي تجري كالمعتاد وراء النوافذ، بعد درج البار، خطوتان، انتظار القاتل، تثاؤب القتيل، تشاغل شاهد العيان، خشخشة في ميكروفون سيعلن نبأ عاجلاً، النهارُ، الغبارُ، أسماءٌ، أشياءٌ، مطرْ، ضجرْ، والوقتُ يجري على الإسفلت مع المتسابقين في سباق الضاحية، والوقت بالأمس كان له طاولة محجوزة في البار.

والحبُّ وقتٌ طويلٌ من كانون الثاني إلى كانون الأول، والحربُ وقتٌ قصيرٌ من تشرين الثاني إلى تشرين الأول، وكنا تعاهدنا على البدء في آذار، قلتُ إنَّ شاعرين عظيمين ولدا في الشهر الأخضر، وقلتِ إنَّ عندليباً وأمَّكِ وشجرة ماتوا أيضاً في الشهر الأحمر. دعكِ أيضاً من نيسان فالكذبُ الأبيض لا يصدَّق، ولا تعوِّلي أبداً على أيار الأصفر، حزيران كما تعرفين مشؤوم، وتموز التباس الأسماء بين الثورة والانقلاب، وآب لا يصلح لعمل مفيدٍ، وأيلول.. عمى الألوان. يتبقى شباط؛ هل يمكنكِ أن تثقي بصحوه؟ أما أنا فلستُ متأكداً أنَّ الحربَ ستصعدُ إلى الروزنامة.

سأهديكِ روزنامة العام الجديد، في صفحة تشرين الثالث هناك صور مصقولة لغابة بولونيا الباريسية، سألتقيكِ هناك في موعد قريب، في كانون الثالث، وساعة رمل سأهديكِ، عبأتها رملة، رملة في رحلة الشتاء قبل صيف إلى الربع الخالي، هناك أيضاً سنلتقي لما يحدث "الانقلاب" المفاجئ على الطبيعة، وتقرأ عشبة جافة بيانها الأول: أنا أوركيدا لسبعة أيام، ثمَّ نبدأ رحلة الأبد، سأهديكِ في مستهلها ساعة ضدّ الماء، إنْ اضطررتِ لعبور النهر. سأطوِّقكِ بالوقت الأبيض، المحايد، السادة؛ الوقتُ الغليظ في الألف الرفيعة التي تفصل الزمن عن الزمان.

Read more…

دمعكِ أصدق من الشتاء!

في الصيف، في طريقنا إلى أيِّ مكان، نسمعُ فيروز تغني:"رجعت الشتوية". ولا يأخذ أحد من الركاب غناءها على محمل الجد، فيزيح الستارة القذرة، ويفتحُ الشبَّاك المهترئ ليمدَّ كفه لمصافحة غير متكافئة مع حبات المطر. لا أحد يفعل ذلك، ولم يحدث أن صدقنا فيروز أن "الشتوية رجعت" في تموز! 

وحينَ يكونُ الشتاء متوقعا منذ "ذيل أيلول"، يمعنُ السائق؛ أي سائق في خداعنا. نكون على وشك النوم تزجية للمشاوير الطويلة التي لا تحملنا غالبا إلى فصل خامس لم نألفه، فيأتي صوت فيروز وراء مقدمة موسيقية شديدة الألفة، مثل امرأة تلوِّحُ بقلبها لمدىً يابسة خضرته، لا يصرُّ فقط على أنَّ الشتوية رجعت، بل تأخذنا إلى مشاوير مبلولة على أدراج منسية!

ونصدِّقُ ،نزيحُ الستائر، ونفتحُ الشبابيك.. ولا تصافحُ أكفنا إلا ريحاً جافة! 

وهذا الشتاءُ حيَّرَنا. كلُّ الإذاعات راحت تستعينُ بفيروز لتصادقَ على توقعات مذيعي الأرصاد الجوية. وقبل أيام أفرط الأثير في التبشير بالثلج، وجازف بمصداقية "الصوت الملائكي". قالت فيروز إنَّ الثلج جاء عشرين مرة، وفتحنا النوافذ ولم نجد طفلا ما يزال صغيرا، اسمه شادي، يلهو بثلج طازج!

جاءَ الشتاءُ مبكرا هذا العام، مرَّتين أو ثلاثة، وكنتُ أحرصُ على سماع تفسيرات الركاب في الحافلة لمعنى أن٦#39; يأتي المطرُ قبل صلاة الاستسقاء. المذيع دائما مبتهج حتى تظنَّ أنه إقطاعي لا تروي أراضيه مياه النيل، على طوله،

رجلٌ عجوز فرحَ بداية الأمر، واطمأنَّ أكثر لأن أستاذ جغرافيا محاذيا له أخبره أن "الشتوة الأخيرة" جعلت مخزون السدود أفضل من معدلها العام الماضي. وتحمَّسَ الأستاذ أكثر، وأكد أن شتوتين مماثلتين قد تكفيان البلاد عامين؛ فابتهج العجوز. قال من دون أن تبدو عليه السخرية:"إذن لن أموت بسبب العطش"!

امرأة سمينة سرَّها المطر؛ فهو سيُضاعف كميات الخضراوات، ويخفض بذلك سعرها. امرأة نحيلة لم تخجل من إبداء تذمُرها من الشتاء المبكر الذي سيضطرُّها ابتياع "كاز مغشوش"، يُناسب أكثر مدفأتها الصدئة، الدافئة نارها!

أما الفتى العاشق فلم يكن لديه تفسير واضح!

انقطعَ الشتاء حين كان متوقعا، أربعون يوما لم تص٦#39;دُق فيها فيروز إلا مرَّتين، الركاب في الحافلة اجتهدوا في تفسير الأمر، العجوز لم يكن الأمر يعنيه تماما لأنَّ مياه الشرب تكفي لعامين مقبلين، وأستاذ الجغرافيا رأى أن الأمر لم يخرج عن السياق المناخي المعتاد، المرأة السمينة سرَّها انحباس المطر لأنه سيوفر عليها أسطوانة غاز، والمرأة النحيلة أزعجها، لأن الخضراوات لم تعد تفيض عن حاجة المستوردين!

وحده المذيع بقي مبتهجا ويسوِّق لمنخفض جديد، منذ أربعين يوما وهو يشهر أوراقه الثبوتية على مسامعنا، ويتشدَّقُ بأصوله القطبية!

أما العاشق كان وحده يزيحُ الستارة ليرى المطر حين تغني فيروز "رجعت الشتوية" في تموز، فهو مستعد أن يصدِّق عودة الشتاء في أيِّ وقت بمجرَّد أن تبكي حبيبته على كتفه. وهي كانت دائما تبكي، بلا مبرر واضح، فيثق أكثر في حبها!!

كذب الشتاء هذا العام علينا جميعا؛ جاء مبكرا جدا عندما لم يكن متوقعا، وتأخر أربعين يوما وجاء في وقتنا الضائع!

إلا العاشق لم يعنه كذب الشتاء المبالغ فيه؛ فدمع حبيبته ربَّما كان أصدق!!

Read more…

رغبة قديمة بالبكاء

ألبسُ غيْمَةً داكنة، وأدخِّنُ بخاراً دافئاً، وأردِّدُ بلا دمعٍ واضح شعراً كلاسيكياً لـ "بدر شاكر السيَّاب" يلائمُ الأجواء السائدة التي أعلنت عنها مراراً النشرة الجوية بأيْمانٍ صادقةٍ، وأقولُ في قلبي الكئيب:"إنْ صادفتُ امرأةً في هذا الشتاء سأحبُّها، وأعدها بصيفٍ ونجمات، في أيِّ فصل قادم"! ولديَّ رغبة حارَّة للحبِّ في هذا الجوِّ البارد، على أنْ لا يخضعَ لعُرف المطر، بأنَّ كلَّ قصص الغرام التي تبدأ في الشتاء لا ينضبُ دمعها، فالتعساء في الحبِّ هم منْ روَّجوا أن للشتاء بكاء، والشعراء هم منْ صدَّقوا الكذبَة، والساذجون هم من غنُّوها. وليس لي في هذا الشتاء حبيبة، ولي وكان لي ألف سبب للبكاء؛ لكنَّ الدمع لا يُستجدى بصلاة الاستسقاء!والحبُّ قصير، ففي أطول بكائه، ليس أبعد من نهر يطرأ في الشتاء، وساعاته محدودة كتلك التي يصمدُ فيها ثلجٌ سقطَ مرغماً على أطراف الصحراء، وأيامه معدودة مثل منخفض لا يزيدُ عمقه على حِدادِ طير على سُنبلة، والحبُّ أقصر من حبل هذا الكذب: فلو كان الشتاءُ صادقاً لما تظاهرَ بالبكاء، ولو كنتُ صادقاً لما أحببتكِ في هذا الشتاء؛ في الشتاء لن أحبَّ، سأقتفي أثر "سحابة صيف".الشتاءُ.. هو اسم الحبِّ إذا كانت الأسماء على مسمياتها، وهو شكل الحبِّ إذا التحَمَ عاشقان كغيمتين صبورَتيْن، وملامحه إذا أخلصَ عاشقٌ لذكرى عاشقة، ومآله إذا كانَ البكاءُ شكلاً مقترحاً للخاتمة، وقد افترقنا، قبل شتاءَيْنِ تحت المطر؛ فبكيتُ، وبدا أنَّها بكتْ، والآن لا مطر يُربكُ سير الطرقات، ولا غيمَ ثقيلاً مثل كنزة الصوف يلامس أكتافنا، فالحبُّ هو اسم الشتاء إذا كانت الأسماء على مسمياتها، وشكله إذا وقع طائران في مجاز واحد، وهيئته التي تدرُّ الضحك عندما يصبحُ الشتاءُ محاولةً للبكاءِ!و"الشتاء فصل النساء، لأنَّ الرجالَ لا تبكي" قال جدِّي الذي مات في "الماطر" من "شباط"، أما أبي فكان رومانسياً، يُفضِّلُ الموتَ في الثاني والعشرين من كانون أول، حتى تشاركَ السماءُ بمخزونها الاستراتيجيِّ من الدمع في أربعينه. وفي أول شتاءٍ مرَّ على وفاته، حلمتُ أنَّه يطلبُ منِّي أنْ أغطيه بلحافٍ آخر: في اليوم التالي أو الذي يليه، مررتُ قربَ المقبرة، ولم أجرؤ على دخولها، فقد هطلَ المطرُ مجدداً، فوقفتُ تحتَ مظلة "دكان"، أراقب عودة المشيِّعينَ من جنازة رجلٍ تُرِكَ وحيداً دون لحاف. حضَّرتُ كلاماً قاسياً لألومهم، لكن عندما مروا أمامي، انسللتُ بينهم، مرتدياً معطفين!عاد الشتاءُ، وكلَّما أقرَّت "فيروز" بعودته، تذكَّرتُ أنَّ لي رغبة قديمَةً بالبكاء: على حبٍّ له عُمْرُ الثلج، أو على أبٍ ماتَ طلباً للدفء، أو على وطن يغرقُ في أيِّ ماءٍ بمعدَّل شبرٍ ناقص الإبهام. عادَ قطبياً، عنيفاً، كما توعَّدت مذيعة ترتدي نصفَ حصَّتها من الملابس، وهذا الشتاءُ يثيرُ فزعي، يُربكني كحبٍّ مُحْتمل عندما أصافحُ امرأةً اسمها "اليكسا"، يُذكِّرُني بالنهايات التي خرجت من كتبها المحفوظة قبل موعدها، فقد ولدتُ في الصيف وأخشى خاتمة الشتاء، وهذا الجوُّ الغائم بالأسرار يجعلني حكيماً، فالغيمُ الأسود لا يحمل الثلج، وهذا الشتاءُ غريبٌ كالحبِّ، كذكرى عاشقةٍ: فالمَطرُ في "عمَّان" والغيمُ في قلبي!

Read more…

تدخلين العام الجديد

تدخلين العام الجديد بقدمكِ اليمنى، وأتأخَّرُ خلفكِ مسافة أمانٍ. ثلاثون يوماً في كانون الأول، أختبرُ اليومَ الأول، كأنه يشبه اليومَ الزائد من الشهر الأخير، حيث لا نهار خلفَ نافذتي، ولا امرأة تقرعُ شباكي بحصاةٍ. النافذة أصلاً لم تكن هنا، ولم تكن للأعوام أسماء، وكنت بحاجة إلى حبّ سريع لعمري القصير، وتقسيم الأعوام إلى غايات: فأعشق عاماً..؛ وأموتُ عاماً!

Read more…

وقت "خالي الدسم"

انتهى العام أو بدأ، لستُ أذكرُ، لكنَّ حصيلةً مؤسفَةً من الأعوام تفصلنا الآن (أي قبل ربع وقتٍ من عملة الزمن الفضية). أحدِّقُ في الروزنامة التي جاء بها الساعي إليَّ قبل قليل، ورقها المصقول يفيدُ أننا في العام الرابع عشر بعد ميلاد الصبيِّ الذي مات على هيئة نطفة. كان من المفترض أن يكبر خمسة أجيال، ويصير ولداً غبياً أو ذكياً، ولو عاش قليلاً لأخبرته صبية في الحيِّ بأن صوته كناريٌّ، وشاركَ في النسخة الأخيرة من "ذا فويس"، وخسِرَ كما يخسرُ التعساء، وأطالَ اليأس مع الحياة، حتى يتمنى، أثناء تحديقه في روزنامة مصقولة، أنْ يعودَ عَلَقة!

من تراب جسدي، وقمحه، عبَّأتُ يا حبيبتي "ساعة الرمل" الموثوقة: الوقت "خالي الدسم"، والأيام "منزوعة البركة"، والسنوات اندمجت أخيراً في سباق المسافات الطويلة، والقرونُ زوائد زمَنيَّة يمكنُ إجمالها بـ "العَصْر" أو ما قبله بصلاة. هكذا يا حبيبتي يبدو الآن (أي قبل قليل) أنَّ حقبة قد مرَّت سهواً من بين أصابعنا. كنَّا على وشك أنْ نتصافح لكنَّ الدَّهرَ أدرَكنا!

Read more…